عندما يحسب العبد أنه خُلِق لغير غاية ولا هدف حساباتك خاطئة
هي حلقة من سلسلة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، نتوقف إخوتي الأحبة عند كلمة "حسب" ومشتقاتها في كتاب الله جلَّ وعلا، فعند تدبر مشتقات هذه الكلمة "ولا تحسبن".. "ولا يحسبن".. "أيحسب؟".. "أم تحسب؟".. "أفحسبتم؟".. "وتحسبونه".. تُدرك أن الله عزَّ وجلَّ ينعى على الناس حسابات حسبوها، وقدروا لها نتائج وفق حساباتهم فإذا بها.. حسابات خاطئة!.
- أنواع من الحسابات الخاطئة:
1) عندما يحسب العبد أنه خُلِق لغير غاية ولا هدف.. فإن حسابه خاطئ، والله يصحِّح له المفهوم ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) (المؤمنون).
2) عندما يحسب الكفار والفجار أن حلم الله عليهم وإملاءه لهم إنما هو نتيجة قبوله لهم ورضاه عنهم، والحقيقة أنها سنة الاستدراج: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) (آل عمران).
3) عندما يحسب الجبابرة والطغاة حين يخضع الضعفاء لسطوتهم عليهم أنهم لا يقهرون، وأنهم سبقوا وفازوا؛ يصحِّح الله عزَّ وجلَّ لهؤلاء المهزومين نفسيًّا المفهوم، ويقول:
﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) (الأنفال).
ويقول أيضًا: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾ (الجاثية).
4) وأخطر تلك الحسابات الخاطئة هو ما نحسبه ذنبًا حقيرًا، في حين يحسبه الله جلَّ في علاه ذنبًا كبيرًا؛ فإن من المسلمين من يقترف الذنب ويتجرأ على السيئات وهو مطمئن إلى صغر المعصية، ويحسب أنه لن يؤاخذ بها فإذا بها يوم القيامة ذنب عظيم: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) (النور).
وهذا باب عظيم اسمه "محقرات الذنوب"، وهي آثام يقدم عليها العبد استهانةً بها، ويظن أنه لن يعاقب بها وهذا من الحسابات الخاطئة؛ فيُفاجأ يوم القيامة أنها استوجبت سخط الله عزَّ وجلَّ.
ففي مسند الإمام أحمد بإسناد حسن عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ، فجاء ذا بعود وذا بعود حتى حملوا ما أنضج خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه".. وهكذا أخي الحبيب محقرات الذنوب، إذا انضم بعضها إلى بعض كان لها من الأثر في إتلاف النفس، وإظلام القلب؛ ما يكون لكبائر الذنوب وعظائم الخطايا.
واسمع إلى عائشة رضي الله عنها، وهي تقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالبًا" (صحيح رواه ابن ماجه، وأحمد، والدارمي).
5) وحساب آخر أحب أن أقف عنده وقفة، تأمل أخي الحبيب.. ألا وهو حساب نحسبه جميعًا معاشر الناس والداعين إلى الله على وجه الخصوص، نظن فيه أن الإيمان كلمات يسيرات لا اختبار فيها، ولا ابتلاء من أجلها.. لا وألف لا.. ما أخطأه من حساب!.
ذلك الذي تظن فيه أنك ستعلن إيمانك، وتجهر بدعوتك، وتظهر هويتك، ثم بعد كل هذا لن تُبتلى ولن تُمتحن من ربك الذي أعلنت إيمانك به، وتمسكك بدينه واتباعك رسوله.. تأكد أنه سيبتليك.. وسيمتحنك ليعلم.. وهو سبحانه يعلم.. أصادق أنت في دعواك؟ أثابت أنت على الطريق؟ أيسبق كلمات الإيمان التي تعلنها يقين جازم؟ أتنطلق من عقيدة راسخة رسوخ الجبال أم تراها دعوى زائفة!! وإيمانًا مزعومًا!! وكلمات لا روح فيها؟!!
﴿الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) (العنكبوت).
* إنها سنة الله الإلهية.. تلك التي فهمها الراهب وهو يقول لرسولك صلى الله عليه وسلم: "ليتني فيها جذعًا إذ يخرجك قومك، قال: "أومخرجيَّ هم؟!" قال: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي!!.
* إنها سنة الله الإلهية التي فهمها أيضًا راهب غلام الأخدود، وهو يقول له: يا بني قد بلغ من أمرك ما أرى.. وإنك ستبتلى فإذا ابتليت فلا تدل عليَّ!! فكيف علم الراهب أن الغلام سيُبتلى؟ لقد رأى أن دعوة الغلام قد ظهرت، وانتشر أمرها وذاع، وأن الغلام يقدم حلولاً لمشكلات أمته بالإسلام الذي آمن به واعتنقه، وأن شأن الطغاة في كل زمان ومكان أن يضيقوا ذرعًا بأمثاله؛ لظنهم أنه سيزاحمهم في دنياهم التي هي منتهى أملهم.. فمهَّد له الأمر بقوله.. "وإنك ستبتلى!!".. وهكذا يصحِّح الله عزَّ وجلَّ تصورات أولئك الذين ظنوا أن التزام نهج أصحاب الدعوات يكون بلا ضريبة، والذين تصوروا أن طريق الإيمان مفروش بالورود.
6) وأختم هذه الحسابات الخاطئة بحسبة، يلزمنا حسابها من جديد؛ خاصة مع أحداث جسام تمر بها أمة الإسلام، ويمر بها إخواننا المحاصرون في فلسطين.. فعندما يبدأ اليهود مخططهم القديم الحديث في تهويد القدس وتغيير هوية مقدسات المسلمين فيها.. عندما يُستهان بالأرض والعرض والتاريخ والجغرافيا، وعندما يتجرَّأ أبناء القردة والخنازير وعبد الطاغوت على أمة الإسلام، فلا يقيمون لها وزنًا.. عند ذاك يتعين جهادهم بكل وسيلة ممكنة بالنفس والجهد والمال والكلمة.. كلٌّ بوسعه، وهو ما سماه الله عزَّ وجلَّ.. حق الجهاد: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) (الحج).
أقول.. عندما يصبح الأمر جدًّا ليس بالهزل ويتوارى كثير من الملتزمين خلف أعذار واهية ومبررات تافهة.. عندها يقرع الله عزَّ وجلَّ آذان الجبناء، ويصحِّح مفاهيم القاعدين، ويستثير نخوة عموم المسلمين بقوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) (آل عمران).
إخوتي الأحبة.. مفتاح الجنة.. جهاد في سبيل الله وصبر على ذلك.. والآية واضحة لكل ذي عينين.. فوالذي لا رب غيره مهما صُمت وصليت وحججت وزكيت، وأنت لم تبذل جهدًا من أجل نصرة إخوانك في فلسطين، وفي كل بقاع الأرض؛ فلن تلج باب جنة رب العالمين.. وهي سنة الله الماضية إلى يوم القيامة.. ولن تجد لسنة الله تبديلاً.. ولن تجد لسنة الله تحويلاً.
واسمع إلى كلام سيد المرسلين: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق" (أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة).
* ولئن كانت الشهادة في سبيل الله تعني الموت ومفارقة الأحبة ومغادرة الديار وزوال المتاع والأموال.. لئن كان كل هذا وارد الحدوث، قريب الحصول، ولئن كان البشر بطبعه يجزع من هذا ويكره الأذى والألم ولا يحب الموت؛ ما يجعلهم يتثاقلون عن بذل الأموال والمهج في سبيل الله فإن الله عزَّ وجلَّ يصحِّح المفاهيم ويوضِّح حقيقة الأمر في آيات واضحات جليات: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) (آل عمران).
* وأختم حديثي إليكم أيها الأحبة بآية من كتاب ربنا من سورة البقرة هي الآية "214"
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214).
فإذا كانت تلك هي حسابات الناس الخاطئة، والتي استَدعت أن يوضِّح الله لهم خطأها، واستدعت أن يصحِّحها لهم في آيات عديدة من كتابه جلَّ وعلا بقوله: أم حسبتم؟ أحسب؟ وتحسبونه.. فإني أذكِّرك أخي الحبيب بأن الوقت لا يزال فيه فرصة لك أن تبادر بالتصحيح وفق منهج الله من قبل أن يأتي وقت لا تجد فيه إلا الحسرة والندم.. أعاذني الله وإياك منهما، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله ومصطفاه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الأحد 10 مارس 2024 - 17:52 من طرف omar
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر جمادى الثانية عام 1445هـ الموافق دجنبر 2023م يناير 2024م GMT+1 شمال المغرب تطوان
الجمعة 15 ديسمبر 2023 - 20:42 من طرف omar
» وفاة العلامة العياشي أفيلال المغرب تطوان عن عمر يناهز 82 سنة
الإثنين 11 ديسمبر 2023 - 12:48 من طرف weink
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر ذي الحجة عام 1444هـ الموافق يونيو يوليوز 2023م GMT+1 شمال المغرب تطوان
الجمعة 23 يونيو 2023 - 19:25 من طرف omar
» في عيد المقاومة ويوم التحرير لفلسطين عهدٌ ووعدٌ
الإثنين 29 مايو 2023 - 19:56 من طرف omar
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر ذو القعدة عام 1444هـ الموافق ماي يونيو 2023م GMT+1 شمال المغرب تطوان
الخميس 25 مايو 2023 - 21:28 من طرف omar
» الجنرال محمد بريظ، المفتش العام الجديد للقوات المسلحة الملكية وقائد المنطقة الجنوبية
الأحد 23 أبريل 2023 - 17:05 من طرف omar
» محمد بن سلمان آل سعود
السبت 22 أبريل 2023 - 23:28 من طرف omar
» الفنان السوري محمد قنوع توفي مساء اليوم السبت، في إثر احتشاء في عضلة القلب، عن عمر ناهز الـ 49 عاماً
السبت 22 أبريل 2023 - 22:44 من طرف omar
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر شوال عام 1444هـ الموافق أبريل ماي 2023م بتوقيت +1 GMT المغرب تطوان
السبت 22 أبريل 2023 - 21:21 من طرف omar
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر شعبان عام 1444هـ الموافق فبراير مارس 2023م GMT+1 المغرب تطوان
الإثنين 27 فبراير 2023 - 22:50 من طرف omar
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر رجب عام 1444هـ الموافق يناير فبراير 2023م GMT+1 المغرب تطوان
الخميس 26 يناير 2023 - 19:00 من طرف omar