بقلم: الشيخ/ حجازي إبراهيم ثريا
لما كانت نعم الله على الإنسان لا تُحصى ولا تُعد فإن الإنسان يعجز أن يقوم بشكرها، ومن ثَمَّ فإن ما يقوم به المسلم إنما هو برهان على صدق نيته في إقراره لله بنعمه وحرصه على أن يشكر الله عليها بقدر استطاعته، وسوف نضع بين يدَي المسلم بعض المعالم التي تعينه على الشكر من خلال النقاط الآتية:
1- الشكر بالعمل:
والشكر بالعمل قليل مَن يفعله، وهو ما جاء في قول الله تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ﴾ (سبأ: من الآية 13).
رُوي أن داود عليه السلام قال: كيف أشكرك يا رب والشكر نعمة منك! قال: الآن قد عرفتني وشكرتني؛ إذ قد عرفت أن الشكر مني نعمة. قال: يا رب فأرني أخفى نعمك عليَّ. قال يا داود تنفس، فتنفس داود، فقال الله تعالى: مَن يُحصي هذه النعمة الليل والنهار.
وعن ثابت البناني رضي الله عنه قال: بلغنا أن داود عليه السلام جزَّأ الصلاةَ على نسائه وولده، فلم تكن تأتي ساعةً من الليل والنهار إلا وإنسان قائم من آل داود يصلي، فعمتهم هذه الآية: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ﴾.
وعن عطاء بن يسار- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس على المنبر، وقرأ هذه الآية: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ﴾ ،قال: "ثلاث من أوتيهن فقد أُوتي ما أوتي آل داود"، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: "العدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وذكر الله في السر والعلانية"(1).
2 - شكر الأعضاء:
وأما شكر الله- عزَّ وجلَّ - على ما أنعم به علينا من جوارح، فقد روي أن أبا حازم جاءه رجل فقال له: ما شكر العينين؟ قال: إن رأيت بهما خيرًا أعلنته، وإن رأيت بهما شرًّا سترته.
قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت خيرًا وعيته، وإن سمعت بهما شرًّا أخفيته. قال: فما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقًّا لله- عزَّ وجلَّ- هو فيهما، قال فما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفله طعامًا، وأعلاه علمًا، قال فما شكر الفرج؟ قال: كما قال الله- عزَّ وجلَّ-: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ (7)﴾ (المؤمنون)، قال: فما شكر الرِّجْلَيْنِ؟ قال: إن رأيت حيًّا غبطته بهما عمله، وإن رأيت ميتًا مقته كففتها عن عمله، وأنت شاكر لله- عزَّ وجلًَّ، فأما من شكر بلسانه، ولم يشكر بجميع أعضائه، فمثله كمثل رجل له كساء، فأخذ بطرفه، ولم يلبسه، فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر(2).
3 - الشكر من جنس النعمة:
والشكر يكون من جـنس النعمة التي وهبها الله إياك، فمَن رزقه الله مالاً فيكون بأداء الحق المعلوم للسائل والمحروم، والإنفاق منه سرًّا وعلانيـةً بالليل والنهار، ومن زاده الله أكثر من صلة الأرحـام والصدقات الزائدة على حق الزكاة، ومن شكر الله زاده: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)﴾ (إبراهيم).
عن قتادة قال في هذه الآية: حق على الله أن يعطي مَن سأله، ويزيد مَن شكره، والله منعم يحب الشاكرين، فاشكروا لله نعمه.
ومَن رزقه الله علمًا فشكره بالإنفاق منه بأن يعلم غيره، ويفقه أهله وجاره، ومَن رزقه الله جاهًا، فشكره بأن يستعمله في تيسير الحاجات للآخرين، وقضاء مصالحهم.
ومَن أفاض الله عليه إيمانًا راسخًا، ويقينًا ثابتًا، فشكره أن يفيض على الآخرين من إيمانه، وأن يسكب عليهم من يقينه؛ وذلك بأن يذكرهم بنعم الله وآلائه، وأن يحيي في قلوبهم الرجاء والخوف والخشية من الله، وأن يُثَبِّت في قلوبهم بأن الآجال والأرزاق بيد الله، وأن الخلق لا يملكون له نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، وأن من أسماء الله الحسنى أنه المحيي المميت، الرزاق، النافع الضار، القابض الباسط.
وبمعنى أعم وأشمل أن يجدد لهم إيمانهم برؤيته وموعظته، وأن يقوي اليقين في أفئدتهم، وفي قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (البقرة)، يقول الإمام البيضاوي: ويحتمل أن يراد به الإنفاق من جميع المعاون التي آتاهم الله من النعم الظاهرة والباطنة.
ويؤيده ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن عِلْمًا لا يقال به ككنز لا يُنفق منه" (3)، وإليه ذهب مَن قال: ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون (4).
ومن رزقه الله الـذرية فإن شكرها يكون بأن يغرس في قـلبها عقيدة التوحيد من الصغر، وأن ينشئها على طاعة الله- عزَّ وجلَّ- وأن يحصنها ويعيذها من الشيطان كما أعاذت امرأة عمران ابنتها حين قالت: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ (آل عمران: من الآية 36).
4 - الشكر باللسان:
وإذا كان شكر الله بالعمل، ومن جنس النعمة حق على المسلم الشاكر، لكن هذا لا يقلِّل من قدر شكر اللسان، فإن من الحق علينا أن نشكر الله دائمًا باللسان، وفي كل صباح ومساء يقرُّ لله بالفضل، ويعترف له بافتقار الخلق جميعًا إلى عطائه وجُودِه.
وهذا ما علَّمَنَا إياه الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن غنام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة، أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدَّى شكر يومه، ومن قال مثل ذلك حين يمسي، فقد أدى شكر ليلته" (5).
5 - لا تقرن الحمد والشكر بشرط:
والمسلم حين يشكر الله ويحمده فإنه يحسن الظن بربه، ولا يعلِّق الشكر والحمد بشرط، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقى رجلاً فيقول: "يا فلان كيف أنت؟"، فيقول بخير أحمد الله؛ فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: "جعلك الله بخير"، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "كيف أنت يا فلان؟" فقال: بخير إن شكرت، قال: فسكت عنه. فقال: يا نبي الله إنك كنت تسألني فتقول جعلك الله بخير وإنك اليوم سكت عني، فقال له: "إني كنت أسألك فتقول بخير أحمد الله، فأقول: جعلك الله بخير، وإنك اليوم قلت إن شكرت فشككت فسكت عنك" (6).
6 - شكر النعمة بتسخيرها في الطاعة:
ولا يكون شكر الله على نعمه إلا بأن نسخرها في طاعة الله ومرضاته، وبأن لا نستعين بها على معصيته، فعن الجنيد قال: قال السري يومًا: ما الشكر؟ فقلت له: الشكر عندي أن لا يستعان على المعاصي بشيء من نعمه (7).
وقال ذو النون المصري: الشكر لِمَن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان والإفضال (8).
ويقول الإمام أبو حامد الغزالي: "..إن الناس يظنون أن الشكر أن يقول بلسانه: الحمد لله، الشكر لله، ولم يعرفوا أن معنى الشكر أن يستعمل النعمة في إتمام الحكمة التي أريدت بها وهي طاعة الله عزَّ وجلَّ" (9).
7 - الإقرار لله بنعمه من الشكر:
إن شعور المسلم بفضل الله ومنَّته بالنعم، مع يقينه التام بعجزه عن تقديم الشكر لتلك النعم، وأنه إذا شكر فإنما هو عطاء آخر يحتاج إلى الشكر.
إن هذا من أعظم الشكر لله عزَّ وجلَّ، ولذلك قيل: الشكر على الشكر أتم من الشكر، وذلك أن ترى شكرك بتوفيقه ويكون ذلك التوفيق من أجل النعم عليك فتشكره على الشكر، ثم تشكره على شكر الشكر إلى ما لا يتناهى (10).
وعن أبي عمر الشيباني قال: قال موسى عليه السلام يوم الطور: "يا رب إن أنا صليت فمن قبلك، وإن أنا تصدقت فمن قبلك، وإن أنا بلغت رسالتك فمن قبلك، فكيف أشكرك؟" قال: يا موسى الآن شكرتني (11).
وقال موسى عليه السلام: كيف أشكرك، وأصغر نعمة وضعتها بيدي من نعمك لا يجازى بها عملي كله! فأوحى الله إليه: يا موسى الآن شكرتني (12).
ويقول القرطبي: فحقيقة الشكر على هذا الاعتراف بالنعمة للمنعم، وألا يصرفها في غير طاعته.
وأنشد الهادي، وهو يأكل:
فلم تشكر لنعمته ولكن قويت على معاصيه برزقه
فغص باللقمة، وخنقته العبرة (13).
----------------
* الهوامش:
(1) السيوطي، الدر المنثور 5/430.
(2) السيوطي، الدر المنثور، مرجع سابق 1/281.
(3) أبو نعيم، أحمد بن عبد الله الأصفهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 7/228- بزيادة "ككنز لا ينفق سبيل الله"- دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، سنة 1409هـ 1988م.
(4) البيضاوي، أبي سعيد عبد الله أبي عمر بن محمد الشيرازي، تفسير البيضاوي 1/122- دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت- سنة 1416هـ 1996م.
(5) أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي، سنن أبي داود، 4/320/5072. الأدب- ما يقول إذا أصبح. الدار المصرية القاهرة. سنة 1408 هـ. 1988م.
(6) ابن حنبل، المسند، مرجع سابق 3/ 241.
(7) السيوطي، الدر المنثور، مرجع سابق 1/281.
(8) السيوطي، الدر المنثور، مرجع سابق 5/ 431.
(9) الغزالي، إحياء علوم الدين، مرجع سابق 4/129.
(10) الجيلاني، عبد القادر الجيلاني، الغنية لطالبي طريق الحق 2/612.
(11) المرجع السابق.
(12) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق 1/ 271.
(13) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق 10/225.
الأحد 10 مارس 2024 - 17:52 من طرف omar
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر جمادى الثانية عام 1445هـ الموافق دجنبر 2023م يناير 2024م GMT+1 شمال المغرب تطوان
الجمعة 15 ديسمبر 2023 - 20:42 من طرف omar
» وفاة العلامة العياشي أفيلال المغرب تطوان عن عمر يناهز 82 سنة
الإثنين 11 ديسمبر 2023 - 12:48 من طرف weink
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر ذي الحجة عام 1444هـ الموافق يونيو يوليوز 2023م GMT+1 شمال المغرب تطوان
الجمعة 23 يونيو 2023 - 19:25 من طرف omar
» في عيد المقاومة ويوم التحرير لفلسطين عهدٌ ووعدٌ
الإثنين 29 مايو 2023 - 19:56 من طرف omar
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر ذو القعدة عام 1444هـ الموافق ماي يونيو 2023م GMT+1 شمال المغرب تطوان
الخميس 25 مايو 2023 - 21:28 من طرف omar
» الجنرال محمد بريظ، المفتش العام الجديد للقوات المسلحة الملكية وقائد المنطقة الجنوبية
الأحد 23 أبريل 2023 - 17:05 من طرف omar
» محمد بن سلمان آل سعود
السبت 22 أبريل 2023 - 23:28 من طرف omar
» الفنان السوري محمد قنوع توفي مساء اليوم السبت، في إثر احتشاء في عضلة القلب، عن عمر ناهز الـ 49 عاماً
السبت 22 أبريل 2023 - 22:44 من طرف omar
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر شوال عام 1444هـ الموافق أبريل ماي 2023م بتوقيت +1 GMT المغرب تطوان
السبت 22 أبريل 2023 - 21:21 من طرف omar
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر شعبان عام 1444هـ الموافق فبراير مارس 2023م GMT+1 المغرب تطوان
الإثنين 27 فبراير 2023 - 22:50 من طرف omar
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر رجب عام 1444هـ الموافق يناير فبراير 2023م GMT+1 المغرب تطوان
الخميس 26 يناير 2023 - 19:00 من طرف omar