وقد كانت إسبانيا حريصة على أن تكون صاحبة السيادة في شمال المغرب، نظرا لمواجهته لها جغرافيا, ونظرا للعلاقات التي تربطها به بجكم احتلالها لمدينة مليلية في شرقه، ومدينة سبتة في غربه، منذ القرن الخامس عشر الميلادي، وكانت إسبانيا تزعم ـ ولا زالت ـ إنهما جزآن من التراب الإسباني!
والمنطقة الشمالية المذكورة لا تدخل فيها مدينة طنجة، لأن هذه المدينة اشتهرت منذ القرن التاسع عشر بوضعية سياسية خاصة، فكانت مركزا ديبلوماسيا بالنسبة للمغرب وللدول الأجنبية التي كان ممثلوها يقيمون بطنجة، ثم عرفت بعد ذلك وطيلة أعوام الحماية بوضعية دولية، فكانت تسمى (طنجة الدولية) إلا ما كان من عام 1940 إلى 1945 أثناء الحرب العالمية الثانية، فإن إسبانيا بسطت نفوذها خلال الخمس سنوات المذكورة على طنجة.
وقد واجهت إسبانيا طيلة الأعوام الأولى لحمايتها معارضة شديدة من وطنيي الشمال المخلصين، وتطورت هذه المعارضة إلى معارك دامية بين جيوش الاحتلال الإسباني والمجاهدين في الناحية الجبلية بقيادة الزعيم المجاهد مولاي أحمد الريسوني رحمه الله، وفي الناحية الريفية بقيادة الزعيم المجاهد السيد محمد عبد الكريم الخطابي رحمه الله. وليست هذه هي المرة الأولى التي وقف فيها المجاهدون الشماليون في وجه الزحف الإسباني نحو الشمال الذي كان الإسبانيون يودونأن يجعلوا منه مستعمرة إسبانية على شكل مليلية وسبتة. ولكن الوطنيين المتيقظين حالوا بينهم وبين تحقيق هذه الخطة الاستعمارية ووقفوا في وجههم مستببسلين من سنة 1909 إلى أوائل سنة 1912 ـ أي قبل إعلان الحماية بقليل ـ بقيادة الزعيم المجاهد السيد محمد أمزيان الذي استشهد رحمه الله في الجهاد بعد أن استطاع أن يوقف الغزو الإسباني لناحية الريف.
ولكن ثورة الزعيم الخطابي بالنسبة للإسبانيين كانت أدهى وأمر، فقد كبدهم من الخسائر ما اضطروا معه إلى التحالف مع الفرنسيين ضده، ولم يصف الجور لإسبانيا في الشمال إلا بعد سنة 1926 أي بعد أن أرغمت الظروف بطل الريف على الاستسلام للفرنسيين الذين أخذوه أسيرا هو وعائلته وساقوه إلى جزيرة لارينيون منفيا وبقي فيها إلى سنة 1947 حيث هيأت له الاقدار الالتجاء إلى مصر بعد عشرين سنة في النفي.
وكانت نهاية الحرب الريفية فاتحة لنشاط سياسي ووطني صامد من أجل استقلال المغرب ووحدة ترابه. وظل الشمال وفيا لله والوطن والملك، ولم تزده الظروف القاسية التي مر بها إلا إيمانا وتثبيتا.
وحينما قام المغفور له جلالة الملك محمد الخامس بزيارته التاريخية لمدينة طنجة سنة 1947 عبر أهالي الشمال قاطبة في تلك المناسبة عن تعلقهم المتين بجلالته ووحدة مملكته. وقد مر ركب جلالته بمدينة أصيلا الشمالية يوم 9 أبريل 1947 فاستقبل جلالته استقبالا رسميا عظيما، وأفضى جلالته لرجال الصحافة بتصريح قال فيه: «ها أنتم ترون أن المغرب أمة واحدة بل عائلة واحدة، وأن أمنية الأمة المغربية التي ستحقق بعون الله هي أمنية جميع الأمم العربية، إذ الشعوب العربية أمة واحدة». وألقي سمو الأمير مولاي الحسن بن المهدي خليفة جلالته بالشمال خطابا بين يدي جلالته فقال: «إن لبلادنا تاريخا مجيدا، وإن أمير المؤمنين بالغ بحسن قيادته للمرمى السامي الذي يسترجع مجدها الغابر تحت ظل جلالته، لأن المغرب أمة واحدة لا تعترف إلا بعاهل واحد، ستصعد في عهد جلالته مدارج الرقي». وتصريح جلالة الملك وسمو خليفته يعطينا الدليل القاطع على مبلغ تمسك المغرب ملكا وشعبا بوحدة البلاد التاريخية والجغرافية في وقت كان هذا التصريح فيه يعد من خوارق العادة.
وفي مدينة طنجة أكد الشعب الشمالي الوحدة المغربية بطريقة أخرى، وهي أن أهالي تطوان قدموا لجلالة الملك هدية رمزية مكونة من خريطة المغرب مصنوعة من الفضة الخالصة ومكتوبة بالذهب الخالص، وصندوق ذهبي مملوء بتراب الشمال كتب عليه ما يأتي: «بمناسبة زيارة جلالة الملك لطنجة يقدم أهالي تطوان هذا التراب المخضب بدماء الشهداء الأبطال كرمز لوحدة المغرب تحت العرش العلوي المجيد». وأثناء تقديم الهدية المذكورة تكلم الزعيم الأستاذ السيد عبد الخالق الطريس رحمه الله أمام جلالته معلنا ولاء أهالي الشمال لأمير المؤمنين محمد الخامس. وكان ذلك بعد صلاة الجمعة 11 أبريل 1947 .
وكان ورد الفعل من رجال الحماية الإسبانية عنيفا على إظهار هذه العواطف الصادقة نحو العرش ووحدة البلاد على رؤوس الأشهاد. وكانت إسبانيا وقتئذ تظهر بوجهين وتلعب بورقتين. وجه وورقة أمام العالم العربي الذي بدأت تخطب وده وتترقب إليه منذ سنة 1946 بسبب العزلة السياسية التي كانت تحيط بها. فكانت سياستها قائمة على أنها أخت العرب، وأنها تعطف على قضاياهم بصفة عامة، وأنها تناصر المغاربة ملكا وشعبا في مطالبتهم العادلة بالحرية والاستقلال والوحدة. ومن ذلك أنها لزمت الصمت التام أمام لجوء الزعيم الخطابي إلى مصر في الوقت الذي أحدث هذا اللجوء المفاجئ اندهاشا كبيرا في الأوساط الفرنسية وغيرها.
أما الوجه الثاني لإسبانيا وورقتها الثانية فقد كانت داخل منطقة نفوذها فكانت تقوم بضغوط شديدة ومختلفة للحد من النشاط الوطني، ولم تك تسمح إلا بما تعتبره غير مضر بوجودها ومصالحها. أما عبارات الاستقلال والوحدة فقد كانت تتقبلها بامتعاض شديد واستياء بالغ، وتعاقب على ذلك عقابا صارما.
وكانت سياسة فرنسا في جنوب المغرب أشد بأسا وأشد تنكيلا، سياسة قائمة على العنف والبطش والكبت والضغط المتواصل على القصر الملكي من جهة، وعلى الهيئات الوطنية من جهة أخرى. وحينما كانت فرنسا تدبر أمر أبعاد جلالة الملك محمد الخامس بصفته العمود الفقري للوطنية المغربية المناضلة، قام أهالي الشمال بتحرير عريضة تاريخية لتجديد البيعة والولاء لمحمد الخامس ملك المغرب وقعها العلماء والشرفاء والوجهاء ورجال الثقافة والفكر زيادة على قادة الحركة الوطنية في الشمال.
ولما أقدمت فرنسا على نفي جلالته في 20 غشت 1953 قام أهالي الشمال عن بكرة أبيهم بمظاهرات صاخبة للاحتجاج على ذلك العمل الذي كان مخالفة صريحة لمعاهدة الحماية من جهة، ومسا بالشعور الإنساني والكرامة الوطنية من جهة أخرى، ووجدت إسبانيا نفسها أمام أمرين: أما أن تتنكر لصداقتها مع العرب، وتقاوم هذا التيار الوطني العارم، وبذلك تعرض سمعتها ومصالحها وجاليتها لخطر محقق كما حصل للفرنسيين في الجنوب. وأما أن تراوغ وتتظاهر بتأييد الوطنية ما دام الأمر الواقع لا يتعلق بها هي ولا يغير شيئا من وجودها، وبذلك تضمن سلامتها وتزداد قربا من العرب العاطفين عليها. غير لم التزم أمرا معينا من الأمرين المذكورين، وإنما اتخذت موقفا وسطا وسلوكا متقلبا في نفس الوقت. ولكن إيمان الشعب المغربي في الشمال وإخلاصه حملها على تغيير الكثير من موافقتها وبذلك بقي الشمال حصنا حصينا للعرش العلوي العتيد، وللملك الشرعي محمد الخامس قدس الله روحه. وتبين بهذه المناسبة لبعض من قدروا أو توقعوا انفصال الشمال عن الوطن الكبير بسبب تغير الوضعية في الجنوب بعد غشت 1953 تبين لهم أن الشمال لا تؤثر الظروف والأوضاع مهما احلولكت في عقيدته وإخلاصه، وأنه متمسك بالوحدة الوطنية إلى الأبد.
ومضت الأيام مسرعة، في نضال صامد وكفاح مرير من أجل الاستقلال والوحدة وعودة الملك الشرعي، وكتب الله النصر لعباده المؤمنين «ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم» فعادت المشروعية بعودة الملك الشرعي في 16 نوفمبر1955. واعترفت فرنسا باستقلال المغرب في 2 مارس 1956 بعد مفاوضات جلالة الملك محمد الخامس مع الحكومة الفرنسية في باريس. ولم يبق لإسبانيا أمام هذا الإجراء الحاسم إلا أن تعترف من جهتها أيضا باستقلال البلاد ووحدة ترابها وكان ذلك في 7 أبريل 1956 بعد مفاوضات جلالة الملك مع الحكومة الإسبانية في مدريد.
وفي يوم 9 أبريل 1956 عاد جلالة الملك من مدريد ودخل مدينة تطوان عاصمة الشمال حاملا وثيقة الاستقلال والوحدة. فاستقبل استقبال الفاتحين الأبطال. وكان ذلك اليوم عيد وطني عظيم تجلت فيه الوحدة المغربية بأجلى وأبهج مظاهرها. وتبين للعالم أجمع أن المغرب بشماله وجنوبه جزء واحد.
الأحد 10 مارس 2024 - 17:52 من طرف omar
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر جمادى الثانية عام 1445هـ الموافق دجنبر 2023م يناير 2024م GMT+1 شمال المغرب تطوان
الجمعة 15 ديسمبر 2023 - 20:42 من طرف omar
» وفاة العلامة العياشي أفيلال المغرب تطوان عن عمر يناهز 82 سنة
الإثنين 11 ديسمبر 2023 - 12:48 من طرف weink
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر ذي الحجة عام 1444هـ الموافق يونيو يوليوز 2023م GMT+1 شمال المغرب تطوان
الجمعة 23 يونيو 2023 - 19:25 من طرف omar
» في عيد المقاومة ويوم التحرير لفلسطين عهدٌ ووعدٌ
الإثنين 29 مايو 2023 - 19:56 من طرف omar
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر ذو القعدة عام 1444هـ الموافق ماي يونيو 2023م GMT+1 شمال المغرب تطوان
الخميس 25 مايو 2023 - 21:28 من طرف omar
» الجنرال محمد بريظ، المفتش العام الجديد للقوات المسلحة الملكية وقائد المنطقة الجنوبية
الأحد 23 أبريل 2023 - 17:05 من طرف omar
» محمد بن سلمان آل سعود
السبت 22 أبريل 2023 - 23:28 من طرف omar
» الفنان السوري محمد قنوع توفي مساء اليوم السبت، في إثر احتشاء في عضلة القلب، عن عمر ناهز الـ 49 عاماً
السبت 22 أبريل 2023 - 22:44 من طرف omar
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر شوال عام 1444هـ الموافق أبريل ماي 2023م بتوقيت +1 GMT المغرب تطوان
السبت 22 أبريل 2023 - 21:21 من طرف omar
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر شعبان عام 1444هـ الموافق فبراير مارس 2023م GMT+1 المغرب تطوان
الإثنين 27 فبراير 2023 - 22:50 من طرف omar
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر رجب عام 1444هـ الموافق يناير فبراير 2023م GMT+1 المغرب تطوان
الخميس 26 يناير 2023 - 19:00 من طرف omar