لا شكَّ أن بقاء معمر القذافي حتى الآن في السلطة، رغم مرور أكثر من شهرين على ثورة 17 فبراير، يشكِّل فشلا لكل من سعى للإطاحة بهذا الديكتاتور، بدءًا من الثوار، ومرورًا بأوروبا وأمريكا والناتو، وحتى جامعة الدول العربيَّة، التي لأول مرة تتخذ موقفًا حاسمًا وتقف ضد أحد أنظمتها مع أنها كانت توصف كثيرًا كـ "نادٍ للطغاة"، وأخيرًا يمتد الفشل ليشمل المجتمع الدولي، الذي ما زالت مصالح أقطابه المتعارضة تجعله عاجزًا عن التحرك بشكلٍ فاعل تجاه أحد أكثر الأنظمة قمعًا ودمويَّة.
وفي مقابل هذا الفشل لا يمكن أن نصف موقف القذافي بـ "النجاح" أو حتى "الصمود"، فـ "آل القذافي" لا يفعلون شيئًا سوى الإمعان في القتل والتدمير، في محاولة لإقناع الليبيين بأن "الصبر" على ظلمهم أقلُّ تكلفةً من الثورة عليهم، وأنه لا سقف للمدى الذي يمكن أن تذهب إليه آلةُ القتل التابعة لهم، لأنهم بكل بساطة يدركون أن الهزيمة لا تعني لهم وللمجموعات والقبائل الملتفة حولهم سوى "الذبح".
وهذا الأمر صحيح إلى حدٍّ كبير، فحجم الجرائم التي ارتكبوها يجعل من البحث عن ملاذٍ آمن لهم "مزحة ثقيلة"، وليس هناك دولة مهما بلغ تسامحها أو ديكتاتوريتها قادرةٌ على تحمل هذا العبء الثقيل، كما أن أي نظام ليبي جديد لن يقبلَ بأقلّ من وضع القذافي على "المقصلة" قصاصًا لدماء عشرات الآلاف الذين قتلهم.
وإذا كانت هذه أسباب بقاء القذافي، فلماذا فشل –حتى الآن- أحد أكثر التدخلات العسكريَّة في تاريخ الأمم المتحدة شعبيَّة وتقبلا؟ وكيف لم تفلحْ ثورة شعبيَّة تحظى بهذا الدعم الدولي في الإطاحة بنظام يمتلك سجلا حافلا من الجرائم، داخليًّا وخارجيًّا؟ الإجابة على هذين السؤالين تتطلب تناول مواقف القوى الفاعلة في الأزمة ببعضٍ من التفاصيل، فبالنسبة للثوار، لم تكن لهم حيلة في تحوُّل ثورتهم الشعبية السلميَّة إلى قتالٍ مسلَّح، يوشك أن يتحول إلى حرب أهلية، حيث أن النظام هو من لجأ لسياسة "الأرض المحروقة" ودفع بكل قواته العسكريَّة ومرتزقته لقمع المعارضين، ولو لم تتدخلْ قوات التحالف في اللحظات الأخيرة لإيقاف كتائب القذافي على مشارف بنغازي، لشهدت المدينة واحدةً من أكبر المذابح في التاريخ، ومن يشاهد حجم الآليات المدمَّرة بفعل هذا التدخل يدرك هذه الحقيقة.
كما أن الثوار نجحوا مبكرًا في إحكام سيطرتهم على بنغازي، عاصمة الشرق الليبي، لتكون منطلقًا لتحركهم، وشكَّلوا بشكلٍ سريع قيادة مقبولة داخليًّا وخارجيًّا لتتحدث باسمهم، ثم تحرَّكوا بكفاءة للترويج لعدالة قضيتهم وانتزاع الدعم والتأييد الدولي، ونجحوا في كل ذلك، لكنَّ نقطةَ ضعفهم القاتلة تمثَّلَت في ضعف إمكانياتهم العسكريَّة، وهو أمرٌ لم يكن في حساباتهم، فالنظام هو الذي أجبرهم على التحوُّل من التظاهر السلمي إلى المواجهة المسلَّحة، وخوض هذا التحول يتطلب شهورًا طويلة لتجهيز العدَّة والعتاد، كما أنه يتطلب تمويلا ضخمًا ودعمًا دوليًّا، وحتى يتحقَّق ذلك سيبقى الجمود هو سيد الموقف على الأرض، مع استمرار عمليات فر وكر، لا يتوقع أن ينجم عنها تحوُّل كبير، إلا عندما يستكمل الثوار العدة والعتاد.
كذلك فإن الثوار أخطأوا عندما لم يقدِّروا جيدًا قوة التحالفات القبليَّة التي نسجها القذافي خلال ما يقرب من نصف قرن في الحكم، ودفعتهم حماستهم الثورية للمراهنة على سقوطٍ سريع للقذافي، لكن هناك قبائل وعشائر منحها القذافي امتيازات واسعة لتكون يده الباطشة، وهي تدرك أن مصيرها مرتبط بمصيره، ولذا تستميت من أجل الدفاع عن هذا الوضع، وكان يتوجب على قادة الثوار أن ينتبهوا مبكرًا لهذا الأمر، وأن يفتحوا قنوات اتصال مع هذه القبائل ومنحها ضمانات بعدم الملاحقة أو التنكيل، وحتى الآن لا توجد معلومات كافية عن سلوك الثوار في المدن التي سيطروا عليها تجاه أبناء هذه القبائل، لكن لا يُستبعد أن تكون هناك عمليات "تصفية حساب" بفعل النعرات القبليَّة، خاصةً أن القذافي جرَّد ليبيا من أي ملمح لدولة القانون، أو حتى أي ملمح للدولة نفسها، ولذا فإن الحديث عن محاكمات عادلة للمتورطين في جرائم القذافي يبدو "أمرًا رومانسيًّا".
أما على الصعيد الخارجي، فقد برهنت أزمة ليبيا مجددًا على "التشرذم الأوروبي"، حيث أن فرنسا وبريطانيا تزعمتا التحرك الدولي، في حين عارضته ألمانيا بشكلٍ حاسم، وهذا الانقسام أضعف الموقف الأوروبي بشدة، رغم أن ليبيا تشكل أهمية استراتيجيَّة مركزيَّة لأوروبا، حيث تحتل جزءًا كبيرًا من الضفة الجنوبية للمتوسط، وتشكِّل المعبر الأخطر للهجرة غير الشرعيَّة القادمة من كافة أرجاء أفريقيا، كما أنها مصدر رئيسي لإمدادات الغاز والنفط، ورغم هذا كله فشل الأوروبيون في اتخاذ موقف موحَّد، بل تنصَّل الجميع من فاتورة الهجرة غير الشرعيَّة، التي تتدفق قواربها بالعشرات على سواحل إيطاليا، وعندما طلبت روما من شركائها استقبال جزء من هذا الطوفان البشري، جاء الرد بإغلاق الحدود معها، خوفًا من تسرُّب هؤلاء إلى أراضيهم، وهو ما ردَّت عليه إيطاليا مهدِّدة بالانسحاب من اتفاقية "ميتشجن" التي تنظم قواعد العبور الحر بين دول الاتحاد الأوروبي.
وانعكس هذا الانقسام بشدة على أداء حلف الناتو، مع تولِّيه قيادة العمليات في ليبيا، فجاء ضعيفًا باهتًا، ووقعت أخطاء فادحة بعدما قصفت طائرات الحلف عدة مرات عناصر الثوار وسياراتهم، وقد برهن هذا الضعف على أن الناتو بدون أمريكا لا يعني الكثير، وأن حجم التناقض والخلاف بين أعضائه يعوق قدرته على إنجاز أي عمليَّة بالحسم اللازم، وهو ما ينطبق أيضًا على الاتحاد الأوروبي، الذي ما زال منقسمًا حول تسليح الثوار من عدمه، وانتهى الأمر بإيطاليا وفرنسا وبريطانيا إلى إرسال مستشارين عسكريين لتدريب عناصر الثوار، أو بالأدق معاينتهم على الطبيعة، والتأكُّد مما يشاع عن وجود خلايا لتنظيم القاعدة بينهم، ثم بناء على ذلك يتم حسم قضية التسليح.
أما الولايات المتحدة، فإن الوضع الداخلي هو الذي حدد مسار تدخلها في الأزمة، ففي البداية كان الموقف باهتًا، وعندما بدأت المعارضة تسيطر على المدينة تلو الأخرى، اعتقدت إدارة أوباما أنه بمقدورها تحقيق نصر "معنوي" سريع وغير مكلِّف، يصبُّ لصالح حملة أوباما الانتخابيَّة للفوز بولاية ثانية، ولذا انخرطت بقوة في التحرك الدولي، وقادت الهجمات الجوية ضد قوات القذافي، لكن عندما غيرت تلك القوات تكتيكاتها وبدأت تضع آلياتها العسكرية وسط مواقع مأهولة بالسكان، أخذت المهمة تزداد صعوبة، ووضح أنها سوف تطول، وهو ما جعل الانتقادات تتصاعد في الكونجرس، الذي اتفق الكثير من أعضائه، سواء كانوا جمهوريين أو ديمقراطيين، على أن ليبيا لا تشكل "أولوية استراتيجيَّة" لمصالح أمريكا.
وهذا العزوف الأمريكي يرتبط بعجز ميزانيتها عن تحمل تكلفة حرب جديدة، خاصة أن الشركات الأمريكيَّة بعيدة عن "كعكة" النفط والاستثمارات في ليبيا، التي تتقاسمها وتتصارع عليها في الأساس دول أوروبا، كما أن إدارة أوباما مصمِّمة على عدم التورط في حروب جديدة في دول إسلاميَّة، بعد الكلفة الرهيبة التي دفعتها، وما زالت، نتيجة الحرب في العراق وأفغانستان، وأخيرًا فإن أمريكا تتأهب خلال أشهر لبدء الحملات الانتخابيَّة الرئاسيَّة، ومجنون من يقدم في ظل هذه الأجواء على خوض أو تأييد حرب في أرض مجهولة وشاسعة مثل ليبيا، خاصةً أن سيناريو التدخل الفاشل في الصومال ما زال عالقًا في الأذهان، كما أن القذافي، الذي يعد المجنون الوحيد في العالم الذي يمتلك عشرات المليارات من الدولارات وآلاف المرتزقة، شخص لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، أو حدود تفكيره الإجرامي، الأمر الذي قد يصبح معه تنظيم القاعدة "طفلًا وديعًا".
ووسطَ كل هذه المعمعة، يأتي الموقف العربي كمجرد "غطاء معنوي" لإكساب التدخل الدولي نكهةً مقبولة، ولا يمكن اعتبار المشاركة الرمزيَّة من الإمارات وقطر والأردن تمثيلا معتبرًا للثقل العربي، فالدول العربية ذات الوزن الكبير ما زالت بعيدة تمامًا على مجريات الأمور، ولكل منها أسبابها الخاصة، لكن وضع الجمود الذي تتجه إليه الأوضاع في المرحلة المقبلة يتوجَّب موقفًا أكثر فعاليَّة، لأن الأمر قد ينتهي إلى انهيار السلطة المركزيَّة وظهور "صومال جديد"، تقيم فيه كل قبيلة أو أمير حرب "دولته الخاصَّة".
الأحد 10 مارس 2024 - 17:52 من طرف omar
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر جمادى الثانية عام 1445هـ الموافق دجنبر 2023م يناير 2024م GMT+1 شمال المغرب تطوان
الجمعة 15 ديسمبر 2023 - 20:42 من طرف omar
» وفاة العلامة العياشي أفيلال المغرب تطوان عن عمر يناهز 82 سنة
الإثنين 11 ديسمبر 2023 - 12:48 من طرف weink
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر ذي الحجة عام 1444هـ الموافق يونيو يوليوز 2023م GMT+1 شمال المغرب تطوان
الجمعة 23 يونيو 2023 - 19:25 من طرف omar
» في عيد المقاومة ويوم التحرير لفلسطين عهدٌ ووعدٌ
الإثنين 29 مايو 2023 - 19:56 من طرف omar
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر ذو القعدة عام 1444هـ الموافق ماي يونيو 2023م GMT+1 شمال المغرب تطوان
الخميس 25 مايو 2023 - 21:28 من طرف omar
» الجنرال محمد بريظ، المفتش العام الجديد للقوات المسلحة الملكية وقائد المنطقة الجنوبية
الأحد 23 أبريل 2023 - 17:05 من طرف omar
» محمد بن سلمان آل سعود
السبت 22 أبريل 2023 - 23:28 من طرف omar
» الفنان السوري محمد قنوع توفي مساء اليوم السبت، في إثر احتشاء في عضلة القلب، عن عمر ناهز الـ 49 عاماً
السبت 22 أبريل 2023 - 22:44 من طرف omar
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر شوال عام 1444هـ الموافق أبريل ماي 2023م بتوقيت +1 GMT المغرب تطوان
السبت 22 أبريل 2023 - 21:21 من طرف omar
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر شعبان عام 1444هـ الموافق فبراير مارس 2023م GMT+1 المغرب تطوان
الإثنين 27 فبراير 2023 - 22:50 من طرف omar
» حـصة أوقات الـصلاة لـشهر رجب عام 1444هـ الموافق يناير فبراير 2023م GMT+1 المغرب تطوان
الخميس 26 يناير 2023 - 19:00 من طرف omar